الأحد، 1 نوفمبر 2015

‏مشهد من قصّة‬


(1)

تبكي السماء الليلة، لا يعلم هل فقدت عزيزا أم هي تبكي بسخاء لشدّة فرحها بلقاء حبيب. تُولول الرياح فيُنصت في ولولتها لحكايات المغترببين و المُشرّدين و المتوجّعين و المُرابطين و العاشقين الآتية من الأعماق المتوهّجة.. ما أطوال ليل الشتاء و ما أشدّ الوحشة فيه! يُكابد وحدته في هذا الليل الطويل متطلّعا لسقف غرفته يعدّ وجوه أحبّة غابوا و يرسم أحلاما من أجلها شدّ الرحال إلى هذا البلد البعيد. فتأتيه كلماتها على مهل تزيّن سقف غرفته حتّى يُبصر قبسا من نور منه يُطلّ وجهها فإذا إبتسامتها الخضراء تُثمر أملا و تنثره في حقول العُمر، و إذا نظراتها الحانية تمتلئ حكاياتً شجيّة لا تنضب. هو يُنصْتُ لحكاياتها التي تغزلها نظراتها في صمت، و ترسمها نصوصها التي كثيرا ما قالت أنّها تخشى حضورها المكثّف فيها لكنّه كان يُحبّ حضورها في النصّ كشمس ساطعة تدفّئ لحظاته الباردة بالوحدة و الغربة..
يذكر ذلك اليوم عندما قال لها: ما أطول الطريق يا صفيّة ! إنّي لأمشي في يومي ألف خطوة و الطريق لا ينتهي!
جمعت حفنة من أمل كي تتسع عيناها الضيقتان فتغمرانه فيهدأ قلقه، و قالت: الطريق لا ينتهي يا صادق ! الطريق لا ينتهي ما دامت أنفاسك تتردّد في صدرك، الطريق لا ينتهي ما دُمت تغترف كلّ يوم من الشمس نورا لتُقاوم الظلام، الطريق لا ينتهي ما دمت تطارد أحلاما كعاشق يطارد نجمات في الدجى الحالك، الطريق لا ينتهي ما دام نبضك حارّا يتوجّع و يشتاق و يعطي و يبذل.. و إن تعبت فالصّدق يُهوّن سيرك يا صادق !
(2)
 مرّ شريط الذكريات أمام ناظري صادق كنسمة لطيفة؛ يُغازله فيبتسم إبتسامة خفيفة تتجاوز صفحة وجهه لتشقّ صدره أين تزرع بستانا مُعبّقا بالتفاصيل الجميلة. تدثّر صادق بالذكريات التي ليس له إلّاها في زمن الغربة البارد حتّى أخذه الوسن.
كان حديث صفيّة يثبّته و يزرعه بين النجمات، كان حديثها ظلّه أين المُستراح من قيظ الطريق. صفيّة التي يأخذ منها التفكير مأخذه وهي تشرّحُ ما يُقلق راحته و ما يُعكّر مزاجه. صفيّة التي تجنّد بنات أفكارها الساحرة لتخطف من أوقات البُعدِ المُضني زمنا من الفرح المُعتّق تُزمّله بها و هو يحفر طريقه و يُنقّب عن أبجديّة يخطّ بها رسالته.
..
تملأ رئتيها بأنفاس الصبح الزكيّة و تبدأ بزرع خطواتها في الطريق باستحضار أحلامها التي جاءت بها إلى هنا. تحاول التحرّر من قوّة جذب الطين فترفع ناظريها إلى السماء التّي لا حدود لها حتّى تمتلئ ببراح يُنسيها ثقل الخطوات و تمضي في الطريق مُخفّفة من أحمالها.

كان دعاؤها الأدوم و هي تخوض طريقها "ربّ استعملني..". كانت ترمي بخطواتها أن تكون يدا تبني و لو حجرا في بناء الإنسانية، كانت تخاف أشدّ خوف أن تُحوّل ذاتها ٱلى رقم بعدما خصّها الله بالكثير لتقوم بدورها المناط بها على أكمل وجه. كان فكرة المرور العابر تفزعها و تكره أن تكون حياتها روتينية تفقد فيها روحها اتّقادها و تغدو بلا دهشة.. قالت له يوما: راحتنا في هذه الدنيا في البحث المتواصل عن ذواتنا، راحتنا في السعي نحو النور و الحرية و المحبّة التي لن نكتفي منها يوما بل سنظلّ نطلبها لأنّنا كلما ظننا علمنا برز جهلنا.. سنظل نطلب النور لأن جراح الانسانية أكبر مما زعمنا.. سنظل نطلب النور لأن أوهاما حالكة لازات تستعمرنا.. الراحة يا صادق في خوض غمار الحياة و الشعور بكلّ أكبادها ، و ليس في الركود و الاعتتاد بنفس ظنّت الوصول حتى أعماها الكبر و تعذبت بأوهامها المضلّلة فذاقت الجحيم في الدنيا قبل بلوغ الأخرى.. الراحة تذوّق تعب الدنيا و فهم كنه الحياة.
هي لا تتدعي أنها تفهم أكثر منه أو أنّها أقوى منه و أقدر على الطريق، لكنّها تحدّثه بذلك كلّما أرادت أن تحدّث نفسها بذلك بصوت عال فتنقذها من زيغها و ضعفها. و كان يستمتع بسماع كلماتها التي كان يعلمها و يحمل قناعة راسخة به، لكن كلّما ذكرته ازداد ثباتا و أحسّ بونسها في الرحلة..

(3)
راح صادق يخطّ إلى صفيّة رسالة لعلّه يجد بعض السلوى في الثرثرة إليها بكل ما يشغله و يتعبه من هموم و هواجس و أفكار غريبة تتبادر إليه بين الحين و الآخر. هو يعلم أنّه من المرجّح أنّه سيشطب الرسالة قبل إرسالها و بعد أن يفرغ من كتابتها بكلّ حماسة. كان يتخيّل أنّ صفيّة أمامه فيهذي إليها بكلّ التفاصيل، فإذا به وحيد هو و ورقته المثقلة بالحكايا و الشكوى و الآمال و الأحلام و الرؤى و أمور أخرى تافهة !
أ تعلمين صفيّة! مرّات تضيق نفسي بنفسي و أحسّ أن السماء أطبقت علي صدري حتى أنّي لا أجد نفسا. عندئذ تتساوى عندي كل الاحتمالات و يتلبّد شعوري و أفقد شاهية الكلام لأني في حالة لا مفهومة. و ألبث هكذا و أظنّنني على حافّة اللهلاك، إلى أن يمسّني لطف خفيّ منه ! لا أعلم ما هو بالضبط -صفيّة- ذك الذي يتسلّل إلى داخلي جدولا يجري حتّى تلتئم تشقّقات أرض النفس القاحلة ! حتّى أجد حلاوة فالفؤاد أضحى منتبها للجمال و مباليا بالأشواق و مستشعرا لكلّ ما وُهب له من تفاصيل تصنع ثراءه و تميّزه. قد عرفت -صفيّة- أنّ هذا اللطف الخفيّ يأتي عندما لا نغادر، لا نغادر باب سؤال الله و باب العمل رغم افتقاد الشاهية.. فلنبقى حاضرين و إن تقلّب القلب عن قبلة النور فلنقاوم و لنثبت حتّى يحضر من جديد و نعيش الحلاوة. المهمّ أن لا نغيب و لا ننسحب و لا نيأس و لا نبرح حتّى نصل! صفيـّة، أنا اليوم ممتنّ كثيرا لله للطفه الذي لم أن به يوما شقيّا!
صفيّة! أريد أن أقصّ لك حكايتي مع اللحن الذي أدمنت الإنصات إليه. أنا لا أفهم ما يفعل بي حتّى أحكي لك! إنّه فقط يخترقني و يهمس لأعماقي فتهتزّ كأنّها سمعت سرّا عجيبا! آه لو كنت هنا و أنصته فهل ستشعرين بما أشعر !
....
صادق أنا منزعجة جدا منهم لأنهم لا ينتبهون للتفاصيل التي تسكنهم و التي من شأنها أن تصنع منهم أناسا رائعين. لكنهم يتتبهون لتفاصيل القول و يحمّلونها من التأويل أكثر ممّا تحتمل حتى يغدو العالم مزدحما بالعقد و الخبث و القبح و الحسابات التي تهوي بنا في غيابات الجاهليّة. أنا منزعجة منّي عندما أركّز إنتباهي في ضيق الصورة و قتامتها و أنسى أن ألقي بي في حضن السماء الممتدّ المزروع نقاءً و أفكارا بديعة و خطوات تذهب بي من شاطئ الشكوى و التذمّر إلى غمار العمل و الإنجاز.. أنا منزعجة مني لأني أراهن على هذه النفس و أغفل عن ذكر من خلقها و من سوّاها. منزعجة لأنّي أطالب هذا القلب بالمحبّة مرّة و الإبتعاد أخرى، و أنسى أن الله يقلّب قلبي فالأولى بي أن أقبل عليه و وقتها ستسير الأمور بسلاسة طوعا لا كرها؛ هذا القلب لا يفقه سياسة الطلب إنّما منطقه اللين يا صادق ! هكذا تعلّمت!
صفّية تلك الهادئة التي لا تحسن الكلام كثيرا و لا تحبّذه، لكنّ وقوفه على بابها يرسل حكايا الروح مدرارة دون إذن منها و دون وعي حتّى !


..
تونس
01-12-2015
نقّحت 08-11-2015


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...