السبت، 30 نوفمبر 2013

العقل و الإيمان

إنّ من واجب الفرد المسلم أن يُظهر قوته بهذا الدين أي أن تبدو أبعاد اعتقاده منعكسة على واقعه فيكون ذا إرادة في هزّه و الأخذ بزمامه. لذلك وجب عليه أن يفهم دوره بعلاقة طردية مع مكتسباته كإنسان. 

إنّ في قصّة سيدنا إبراهيم مثل الإنسان القويّ المؤمن بقدراته في التعاطي مع الواقع و السعي نحو الإرتقاء به. فقد خاض تجربة البحث عن تلك القوة التي شكلت هذا الكون و أبقته في غاية الانسجام. و لم يكن عقله ليقبل أنّ تلك الأصنام التي عبدها أجداده يمكن أن تكون هي الإله المصوّر الخالق للوجود. فتقلّب و اجتهد و احترم عقله الذي فكّر فرفض آلهة السلف. يجدر التذكير هنا أنّ قصص القرآن الكريم -بإعتباره رسالة بشرية عالميّة- أتت في سياق العبرة و بناء المقصد. فلم تكن القصص تهتم كثيرا بالتفاصيل التاريخية و أسماء الأشخاص و الأمكنة، إنّما كانت ترمي إلى ما يحتاجه الانسان من عبرة. لذلك يقف القصص إذا ما اكتملت الغاية حتى دون تتمّة الحكاية فالمغزى ليست القصّة إنّما أبعادها التّي يحتاجه إنسان كلّ زمان. و هكذا إذن تتمركز قصّة سيدنا ابراهيم حول التقلّب و البحث و التفكير و عدم التسليم دون الرجوع إلى العقل.لنا أن نلاحظ دلالات أخرى في قصة سيدنا ابراهيم و هي قدرة العقل على الإنفتاحٍ على عديد الاحتمالات، و مداه المنطلق في بناء فرضيّات. سيدنا ابراهيم آمن بقداراته العقلية و لم يعبأ بأين سيحطّ التفكير به الرحال، غير أنّ همّه كان البحث عن نتيجة تكون جديرة بهذه الملكة "العقل".

إذن الطريق السويّ لإيمان صادق و قوّي هو التفكير و إحترام العقل و الحذر من تدجينه. لأنّنا بهذا العقل الرصين سنصبح قادرين على مجاوزة العقبات و التغلّب على التحديات الداخلية كالشكّ، و الخارجية منها كإقناع الآخرين بجدارة معتقداتنا بالإعتناق و دورها الرئيس في الارتقاء بنا كإنسان مسؤول في هذا الكون. فإن خشيت يوما عقلك لن تكون صادقا حتّى مع نفسك التي قد تحرجك ببعض التساؤلات التي تنظر إليها  أنّها خطيرة قد تؤدي بك إلى الهلاك ! و إن اكتسبت عقلا منفتحا، حراّ سيكون على درجة من الليونة التي تجنبك الصّد و النّفور من مصادر القلق و الحيرة. تمكنك من التعامل مع تساؤلاتك كأمور جديرة بالبحث و السّبح الطويل إلى حدّ الوصول الي برّ أمان أين يجد عقلك إجابات جديرة به. و في رحلة التقلّب مهمّ أن ننتبه لدرجة تحررنا من تلك الاجابات الجاهزة الملقّنة لعقولنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كالّتي أتتنا من محيطنا منذ النشأة الأولى فاكتسبها العقل كبديهيّات. و يوم تقع هذه القناعات في قفص السّؤال نرانا ندافع عنها بإستماتة، و إن لم نفلح فانّنا نلوذ للتنقيب، لكن التنقيب عن ماذا ؟ إنّنا نبحث عن حجج تصدّق معتقداتنا البدائية.. و هنا يبرز الخطر ! فنحن في بحثنا كنّا مقيدين بأحكام ترسّبت في عقولنا حتى خُيِّل إلينا أنّنا إذا فقدناها سنفقد جزءً منّا و فزِعْنا لهذا. هنا دحض أفكار قد تكون في تناقض مع ما كنّا نعتقده بديهيا و ليس محل جدال هو إذن دافع بحثنا. و بالتالي فاننا وضعنا حدودا و حواجزا لعقولنا، أي قمنا بتحضير إجابات و تصورات لا يمكن ان تأتي عقولنا بخلافها. و هكذا لم نكن أمناء مع عقولنا حيث انه كان واجبا علينا اذا ما طُرح إشكال أن نترك لعقولنا مساحة حرّة تتمكّن فيها من نزع سابق معتقداتها و تأخذ منها مسافة نقدية أي ان تراها احتمالا كباقي الاحتمالات يمكن ان يكون صائبا مثلما يمكن ان يكون خاطئا. 

إنّ مبدأ حريّة التفكير مبدأ كفله الإسلام و حثّ عليه حتّى يتمكّن الإنسان من آداء رسالته "خلافة الله في الأرض" ساعيا لتحقيق الكمال الإنساني.لهذا نجد أنّ القرآن لم يأت بأحكام تفصيلية بل أتى بمبادئ عامّة تنظم الحياة، ضامنا مساحة من الحرية للعقل البشري حتى يجتهد و يسدّد ويقارب و يتفحّص في واقعه، منظبطا في ذلك بالأحكام الربانية كخطوط ناظمة لحركة العقل تقيه التطرّف و إهدار طاقاته و الوقوع في سجن أهواء النّفس. إضافة إلى هذا، نجد أنّ الله أثنى مرارا في كتابه المجيد على أولي الألباب فقرّبهم و جعلهم من الفائزين. 

"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (125/16)؛ الدعوة الي المحاورة االمتعقّلة والمتمحّصة و التناصح بإحسان و ليس من باب الاستعلاء و الكِبر و الزعم بإمتلاك الحقيقة و استنقاص الآخر. هذا هو مبدأ الدّعوة الإسلاميّة التّي كلّف الله بها رسوله الكريم صلّى الله عليه و سلّم.

كما كان مبدأ نشر الرسالة المحمّديّة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (256/2) فالله دعا رسوله إلى عدم إجبار الناس و إخضاعهم بل ترك حرية الاعتقاد لهم و هذا بيان آخر لتوقير ملكة التفكير و إحترام للعقل البشري في حريّته بإتخاذ القرار.

و الحضارة الاسلامية كانت عتيدة بعلامائها المجتهدين الباحثين و المفكرين الذين نجحوا في فهم رسالة دينهم برسمهم ملامح واقع نابض بالتجديد و مشعّ بالإنفتاح. كما نجحوا في استنباط أحكام تراعي خصوصية واقعهم و تحترم مبادئ دينهم.

إنّ حرية العقل تسلّحه بالمصداقية و القدرة علي بناء واقع ثريّ بالحلول. كما ستُمكِّن للنّفس الإنطلاقَ نحو آفاق خصبة ينبت فيها التسامح و الإنفتاح على الآخر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...