الخميس، 4 ديسمبر 2014

الحريّة .. مفتاحُ حضارة



يقول فيلسوف الحضارة مالك بن نبيّ أنّ الانهيار الحضاريّ يكون نتاج القمع في كثير من الأحيان. فتكبيل الإنسان في نمط فكريّ محدّد يطفئ فيه الطاقات المتّقدة و يسدّ عليها المنافذ “فيتباطأ النّشاط الحيويّ و يتراخى و تتثاءب الحضارة و تذوي زهورها و تتساقط أوراقها”.. و القمع يعني أن يصبح الإنسان حبيس جملة من التّصورات لا يكاد يدرك سِواها فيرى الحياة ضيّقة مملّة أحاديّة اللّون حتّى تموت إرادته فكلّ الأشياء متماثلة و في أحسن الأحوال متشابهة.. و إذا به يوهم نفسه أن لا قدرة له على التغيير، أنّه عاجز عن العطاء فلا يكلّف نفسه حتّى المحاولة و البذل… هكذا عاش الإنسان في بلادي، ما يُقارب النّصف قرن، مقموعا مهمّشا عاريا من كلّ حقّ مسلوب الإرادة..
فالقمع اتخذ صورا عديدة و تفشّى في كلّ المجالات.. أستعملت ضدّه أعتى أنواع التّعذيب ماديّة و معنويّة حتّى أصبح يخشى الأفكار التّي تجول بخاطره فلربّما وصل دهاء عبيد البلاط لإكتشاف “رادارٍ فكريّ” ! لهذا قرّر الإنسان في بلادي أن يعيش بـ “سلام” يكسب قوت يومه دون الزّج بنفسه في متاهات السّلطة و أحوال البلاد و العباد.. تفنّن صاحب السّلطان على يد أتباعه في تفقيره و سقوا طعم حياته بمذلّة.. لم تخل مساحة من بِنيان فسادٍ.. و أهمّ ما خُرِّب المناهج المدرسيّة، عُدَّة الأجيال، أفرغت من كلّ المبادئ و القيم التّي تثري شخصيّة النشء و تربّيهم في كنف الإنسانيّة الراقية المبدعة.. و الحصيلة جيل مُنبتّ.. جيل لقيط يجهل هويّته و شجرة عائلته، كيف لا و قد أنجبته مدارس بلا قيم، بلا مبادئ و تربّى في أحضان مجتمع خائف متردّد كمّموا فاه و أطفئوا العقل فيه.. وأدوا الإبداع خيفة أن ينجب لهم “العار” بتعرية جرائمهم.. لكن سنّة الله ليس لها تبديل: بعد العتمة ينبلج الصبح حتما “لا بدّ للّيل أن ينجلي و لا بدّ للقيد أن ينكسر”.. ثار الشّعب فزلزل عرش الطّاغية .. دقّ ناقوس الحريّة مؤذّنا لعهد جديد، لحياة أخرى لشعب طالما قُهِر.. انشرحت الصّدور، خرج النّاس فرحا و تعالت زغاريد الحريّة و الكرامة فالسجّان هرب و السّجناء أصبحوا طلقاء يسرحون و يمرحون في وطنهم الجميل، وطنهم الحنون بأرضه و سمائه…
لكنّ الطّاغية أحرق الأرض و أفسد الزّرع و الغرس فما هم فاعلون ؟ هل تكون الحريّة أداة بناء ؟ هل تُشرق شمس الحضارة إذا تحقّقت حريّة الشّعب ؟ هل لنا أن نتحدّث عن شعب حُرّ بعد قيام الثّورة ؟
الحريّة مكسب غال و لا أحد شكّك في ذلك، لكن هل لهذه النّعمة الإلهية أن تتحوّل إلى نِقمة ؟ فالله يُهيّئ لنا الأسباب و يعدّ لنا العدّة و نحن من نخوض الغِمار و لنا أن نضع ما أعطانا في أعمال صالحة، كما يمكن أن نسير غرورا و كِبرا فنفسد في الأرض… هل ستكون الحريّة مُعينا لنا للمُضيّ قُدُما في سبيل الرقيّ الحضاريّ ؟ كثيرة هي التّساؤلات التّي تُلحّ علينا اليوم في واقع أصبح فيه عنوان كلّ الأشغال و الأعمال “الحريّة”.. كلّ المُمارسات أصبحت مُباحة بإسم “الحريّة”.. قد نُحمّلها ما لا طاقة لها به: أبسمها أطلق العنان للساني لأسبّ كلّ من يخالفني الرّأي ؟ أبسمها أمدّ يدي لآخذ ملا حقّ لي فيه ؟ أبسمها أكره و أحقد ؟… و تتعدّد الفصول لباب واحد، باب “الحريّة”.. أين ما نشاهده من عمليّات تحت راية الحريّة من الحريّة، تلك القيمة السّمحة التّي تعرّفنا عليها كفريضة إلهيّة، حريّة بها، دون سِواها، تتحقّق الإنسانيّة.. ببساطة أن تكون حرّا أي أن تكون إنسانا.. أن تكون حرّا من الخوف و الطّمع و الحقد و الكره.. أن تكن صاحب إرادة ، فاعلا.. أن تكون ذا سماحة تقبل الآخر و تقدّره و تقدّر الفكر فيه… الحريّة أبرز تحدٍّ يواجهه الفرد و لها أثر عميق على الفرد و الجماعة.. فشتّان أن تُفجّر طّاقات الفرد في البناء صُعودا في طريق الرقيّ بالحياة و تطويرها، و أن يَصُبّ جامّ دوافعه في إشباع أهوائه و تحقيق أنانيّته. إن تحوّلت الحريّة ذريعة لكسب الفرد كلّ مصالحه فحتما سيسقط في عبوديّة ذاته و هذا لَعَمري ما يُناقض الحريّة التّي ادّعاها ! ..
يُحكى أنّ سجينا عاش عشرين عاما في زنزانته التّي لا يتجاوز طولها طوله و عرضها بِضع من خطواته، عاش لا يرى للنّور بصيصا. لكن روحه المؤمنة الواثقة المُوقِنة تتلألأ فتنير دروبا فيها يرقى مُنتعشا.. هذه الدّروب إنّما هي دروب عُلويّة أين المعاني السّامية، تلك الدّروب لا يعلم طريقها السّجان و الجلّاد و سيّدهما، دروب لا تتطلّع عليها إلّا الأرواح الحرّة المحلّقة كالطيور لا تعرف القيود تُسافر معلنة السّلام و الحبّ .. يُحكى أنّ ملكا تجبّر و طغى في الأرض لكنّ الجزع لا يكاد يُفارقُه، إنّما يكبر في نفسه يوما تلو الآخر. أصبح مكبّلا بالخوف من ضياع سلطانه على حين غفلة، من غدر خدمه الذين تفنّنوا في إختراع الحيل الشيطانيّة.. يُحكى أنّ السّجين عاش حُرّا طليق الرّوح، و صاحب السّلطان عاش سجين نفسه..
إنّ الحريّة وعي و حسّ و مسؤوليّة.. الحريّة هي أن تخضع تلك الدّوافع الكامنة فينا إلى فكرة، إلى هدف نسخّرها في سبيله.. فتتفجّر الطّاقات في الإبداع و الغلبة في كلّ المجالات فيفوح عطر الحضارة.. الحريّة أن تدور في فلكك لا تصطدم بالآخرين إنّما تحترم تلك المسافة بينك و بينهم، مسافة الأمان التّي بها يتحقّق التّوازن و تنتظم الحياة.. الحريّة أن
تُحبّ، أن تُؤْثِرَ على نفسك فتربّيها على العطاء و على تقبّل الآخر فتٌشيع ثقافة التّسامح التّي بها ترقى الأمم و كما يقول الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور رحمه الله: ”إن أمة تنشأ على التطبع بالرأي الصحيح والتخلق بأخلاق الأخوة والمساواة وحب الحرية وتوقير العدل، لأمة خليقة بأن تعرف مزية الوحدة، فتكون متحدة الإحساس والعمل.”

16/03/2013               


                           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...