الخميس، 4 ديسمبر 2014

الحوار.. سبيلُ خلاص


الحوار هو تلك المساحة التّي تجمع طرفين أو أكثر كي يبدي كلّ منهم رأيه دون اعتقاد أيّ طرف أنّه المالك للحقيقة أو للرأي الصواب. إنّها ليست مبارزة حتّى تظنّ أنّك إمّا أن تكون رابحا أو مهزوما، بل الحوار هو فرصتك الّتي فيها تنظر الأشياء من زاوية لم تقف فيها و وقف فيها آخر.
أسفي عميق أنّ مفهوم الحوار في واقعنا اليوم أصبح مرادفا لخصومةٍ أو فلتقُل حربًا !
كلّ فرد يغلق على أفكاره بإحكام و إصرار و يلتوي بشتّى الأساليب حتّى يظهر أنّه الأقوى و أنّه لا و لن يُهزمَ ؛ إنّها ظاهرة خطيرة و لا تُنذر بخير فبتشبّث كلّ واحد برأيه و عدم قدرته على إنصات من يحمل أفكارا مُغايرة لأفكاره سيأتي علينا يوم يكون فيه حالنا التّناحر من أجلِ أفكار عَبدناها و كبّلتنا فلم نعد قادرين حتّى على الانطلاق نحو الآخر. هذه أعراض الدّاء، لكن ما هي مسبّباته ؟ و كيف لنا أن نخرج من هذا المُستنقع ؟
أمّا عن الأسباب فأنا لا أدّعي أنّي بـمُحْصِيَتُهَا فهي متعدّدة و متشعّبة، لكن ها أنّي سأذكر ما علمته منها و ما أعتقد في أهمّيته. علّ السّبب الرّئيس هو ظروف النّشأة و التّربية. فالطّفل إذا ترعرع في جوّ من الضّغط و الكبت و تلقّي التعليمات و الأوامر و الإملاءات حتما فإنّه سيتربّى على الدونيّة الّتي تُناقض النِديّة فلا يستوعب بذلك أنّ ثمّة قنواتٍ للتّواصل بين الأفراد. بل سيكبر فيه الاعتقاد أنّ العلاقة تقوم بين طرفين أحدهما قويّ يفرض آراءه و الآخر مُستضعفٌ يتلقّى الأوامر. فترتسم صورة الضحيّة في مُخيّلته و يبقى دائما جازما بنقصه و ضعفه فيستميت في الدّفاع على نفسه من طرف مُقابل ظالم لا محالة ! و هكذا فإنّنا نُنتج جيلا مُحبطا مُنعدم الثّقة في ذاته غير قادر على تعريف أولويّاته و موقعه في الحياة.
و ظروف النّشأة و التّربية لا تهمّ الأسرة فقط بل تَسَعُ أيضا المُجتمع الّذي نخضع لعاداته و تقاليده فإن نحن تخلّفنا على هذه المنظومة -الّتي قد لا تتماشى مع رُؤانا و تتعارض مع مبادئنا- فمن المؤكّد أنّنا سنلقى التّقريع و التّوبيخ فنحن لم نُحافظ على "تراثنا" و انبتتنا عن أصلنا فالتّجديد ممنوع و لو كان في خانة الإصلاح. و هكذا يُربّنا المُجتمع "الخانق" بقوانينه على التّقوقع و عدم قبول أيّ جديد و أيّ مُختلف.
كما أنّ الفقر الثّقافيّ و عدم اكتسابنا لمعرفة بتاريخ الأمم و حضاراتها المتنوّعة و شتّى الموروث الإنساني قد يسقط بنا في أحاديّة الرؤية و لا يجعلنا نمتلك فِكرا مَرِنًا يستوعب سنّة الاختلاف و التنوّع.
كذلك الهزّات النفسيّة التّي أصابتنا كشعوب مُضطهدة و أمّة مهزومة عمّقت فينا الاحباطات و عدم قدرتنا على مواجهة الآخر المغتصب فليس لنا إلّا أن نُدافع على أنفسنا بشراسة !
كثيرة هي الأسباب و عميقة .. كيف لنا يا تُرى أن نُبصِر بصيصا في لجّ الدّجى الّذي يُحدق بنا ؟ كيف لـعقولنا أن تخلص من هذا الدّاء العُضال و نعي يوما ثقافة الحوار الّتي هي لبنة من أهمّ لبنات دين خاتم الرّسل و الأنبياء (صلوات الله عليه و تسليماته) ؟
أعتقد أنّ أوّل خطوة يجب أن نقوم بها هي تفكيك الذّات و معرفتها معرفة دقيقة فمن عرف ذاته و علم كيف يقف منها وقفة النّاقد المستوعب لنقائصه و معترفا بحاجته للآخر لن يتعامل مع الآخر بذلك الكِبر المهدّم و العدائيّة الحارقةِ. كذلك يجب أن نعي و نحدّد مسافتنا عن الآخر؛ أ هو من أبناء جلدتنا أو من حضارة أخرى، فهكذا سنعلم أسلوب تواصلنا معه و مدى حاجتنا له لاستكمال ما ينقصنا من تصوّرات و تحقيق ما يجب من مشاريع. يجب أن لا تسبقنا العاطفة في تعاملنا مع الآخر، فتأخذنا غمرة الغضب و المرارة التي نتجرّعها متأثّرين بما أصابنا من غزو استعماري غربي و الذي إلى اليوم نعيش في مخلفاته و تبعاته أن نتصرّف بكلّ غباء و نقرّر الانعزال و محاربتهم ليس نِدّا إلى ندٍّ إنّما من منطلق الضحيّة و الجلّاد فتغزو عقليّة المؤامرة عقولنا و أنّنا مستهدفون و مُحاربون. لكن ليس هكذا نخرج من أزمتنا بل ببناء فكر قادر على استيعاب الآخر و متقن لآليّاته و قادر على الإنجاز و التغيير بمعطيات حاضرنا.
في تصوّري، يجب أن نُربّي أنفسنا على التّحاور في ما بيننا قبل أن نفكّر في طريقة تعاملنا مع الآخر. فلا يصحّ أن نخوّن بعضنا البعض و يتّهم كلّ منّا الآخر بفساد عقيدته و ينسى نُصحه و إرشاده بلُطف و ود ؛ حتّى و إن كنت على حقّ و زمجرت في وجهي فحتما ستُوصَدُ أبواب فكري و تضيع عاصفتك الهوجاء مفاتيح قلبي فـصدق الله القائل في محكم تنزيله " وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك " (سورة آل عمران، من الآية 159).
أجزم أنّ أدب قبول الآخر يجب أن يربّى عليه النشء في المدارس فيُعلّمون كيف نُخاطب من هو مُختلف عنّا و نترك له كامل الحريّة في اختيار رأيه و تحديد موقفه فهاهو الله عزّ و جلّ يُحاور إبليس اللّعين و هاهو الرّسول الكريم يُحاور المشركين و يصل مع اليهود إلى اتفاقية ؛ فأين نحن من هذه الآيات ؟!
نحن بحاجة اليوم لمراجعة أنفسنا فدون حوار لن نتقدّم و لن تُحلّ أزماتنا و لن نرى الهُدى !

31/05/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...