الخميس، 15 يناير 2015

أفيـاءُ كتاب : "منهجيات في الإصلاح والتغيير في سورة الكهف"



  



في الوهلة الأولى و أنت تقرأ القرآن ستنسجم مع القصّة التّي يحكيها ثمّ تشعر أنّ تفاصيلها تُحاكي تفاصيلا عِشتها أو لازلت تعيشها. و ما إن يبدأ الحوار بين قلبك و الآيات الكريمات ستُلهمك المعاني و ترى الدروب امتدّت و آفاقا قد تجلّت في نفسك فاتسعت بعدما ذاقت من السّأم كؤوسًا، ستلقَى نوافذَ من نورٍ رصّعت قلبك؛ قلبك الذّي أفجعته عتماتُ الطّريق !

القرآن ليس وِرْدًا تقرأه يوميّا بعجلة كتلميذ يُريد أن يتخلّص من واجباته المدرسيّة. القرآن ليس حُروفًا تُقلقِلُها و أخرى تُرقّقها تارةً و تُفخِّمها تارةً أخرى، لكنّها لا تبرح طرف لسانك و تخرج من قلبك دون المرور من معابر الفؤاد.. القرآن هو منهج حياةٍ نتعلّمه مع كلّ آية فنخرج من ضيقِ النظّرة إلى فسيحها..
في القرآن سورةٌ نتلُوها كلّ أسبوع حتّى تُنيرَ لنا ما بين الجمعتين كما جاء في حديث خير البرايا صلوات ربّنا عليه و تسليماته. إنّها سورة الكهف الّتي خُصّت بهذا الفضل. أ ليس حريّا أن يستوقفنا هذا الفضل التي حَضَتْ ؟ أ ليست إشارة بأنّ فيها زادا للرّوح حتّى يتجدّد فيها العزم و الإيمان و القوّة كلّ أسبوع و هي تُواجهُ كَبد الحياة الدّنيا ؟
قد يحول بيننا و بين استيعاب هذا الفضل فهمنا السطحيّ لكثير من العبادات الّتي تتحوّل مع الوقت إلى عادات نتبرّك بها أي نظنّ أنّ مجرّد مُمارستها "الماديّة" هو عينُ الهدف. و كأنّ فعل القراءة هو زرّ نضغط عليه فيبزع نور على أيّامِ أسبوعنا المُتعِبَة. إنّنا نطلب نتيجة لا علاقة لها بأعمالنا ويكأنّنا صممنا الآذان عن قوله عزّ و جلّ "و أن ليس للإنسان إلّا ما سعى" ! فإختزال الأمر كلّه في فعل القراءة لن يُؤتنا أُكل الفضل و النّجاة. لن نهتدي لذاك النّور الربّانيّ و سينتابُنا يأسٌ بدايةً رُبّما، أو مللٌ من الفعل (القراءة) الذي أضحى عادة رتيبةً فنتخلّى عنه مرّة ربّما لأنّنا لم نرَ صنيعه بأرواحنا العطشى المُنهكَة.. ذاك النّور الذّي نحكي عنه و الّذي نُطارده بين الجمعتين ليس طَيفًا من خيال، إنّما هو نور ترشفه العقول فتترجم الآيات أفعالا ملموسة تُغيّر الواقع. لهذا كان النبيّ صلّى الله عليه و سلّم حريصا أن يجعل من الثلّة المؤمنة في مطلع دعوته "قرآنًا يمشي على الأرض". فبعد أن تتلألئ المعاني و تُدهش قارئها و سامعها تدقّ ساعة الفهم و الإستيعاب حتّى تُدرك الرسالة و تُحمل في القلوب حملَا أمينا يصوغُها أعمالا بنّاءةً.. القرآن كنزٌ من المنهجيّات التّي بتطبيقها تتحقّق مقاصدُ الشّريعة. القرآن نِبراسٌ به نهتدي لنُبصِر الآفاق و نُحرّر واقعنا من النظرات الحادّة التّي ترمي بنا في يمّ الإياس.. هذا النّور القرآنيّ الذي أبحث، أبحث عنه كلّ أسبوعٍ بين الكلمات و في طيّات معانيها علّني أتزوّد.. عديدةٌ التفاسير التّي بها استنجدت لكنّها غالبا لم تطفئ شوقي و لم تروِ عطشي لمعانٍ تُحييني، لأنّها و للأسف اقتصرت على تفسير المُصطلحات و معالجتها لغويّا، و ربّما سرد إطار تنزيل السورة أو التدقيق في تفاصيل القَصص.. إلى أن وضعه الله نصبَ عينيَّ ! كتاب"منهجيات في الإصلاح والتغيير في سورة الكهف"، أقصد،للدكتور صلاح سلطان. أقام هذا الكتاب ثورةً في طريقة تناولي للقرآن ككلّ و لفهمي لهذه السورة بالأخصّ، أرانِيها بطريقة لم أعهدها. كانت وقفتي معه فارقة ! هذا المُؤلَّفُ أنجز رابطا منهجيّا فريدا بين قَصص السورة فبدت وحدة مترابطة من المعاني، المعاني القرآنية العظيمة التي أراد الله أن نكون بها من الذين أنْعَمَ عليهم. في هذا الكتاب انطلاقة من هذه المعاني نحو الواقع و استنباط ذكيّ للحلول و المخارج. أوجد الكاتب أربعة عشر منهجيّة في الإصلاح و التغيير من خلال سورة الكهف. نقّب فأوجد كلماتً مفاتيحًا في السورة اتخذها نبراسًا لمناهجٍ حياتيٍّة. الكاتب لم يسرف في البحث عن تفاصيل القصص، إنّما كان بحثُه في ما تحته عملٌ فقط !
هنا لن أستعرض كلّ المنهجيّات التي جاءت في الكتاب، بل سأشير للمنهجيّةٍ الأولى التي بها افتُتِح الكتاب و تَفَتَّح الفهم. المنهجيّة هي: "التدرّج من الاستضعاف إلى الحوار و منهما إلى التمكين". لاحظ الكاتب أنّ ثلاثة قصص من أصل الأربعة التي أوردها الله في سورة الكهف، تدور حول صراع بين قوى الحقّ مُقابل قُوى الباطل. و أنّ في ترتيب القصص في السورة تدرّج منهجيّ بيّن. فالحقّ يبدأ في قصّة فتية الكهف ضعيفا فهم المُستضعفون أمام ملكٍ غاشم مُتغطرس لم يرضَ بإيمانهم و خروجهم عن مُعتقدات قومهم. هؤلاء الفِتية لم يكن أمامهم غير الفرار بدينهم. كان المنهج هنا "و ليتلطّف": التلطّف هو سبيل المستضعفين الشّادين على الحقّ، اندفاعهم لن يُودي إلّا بهلاكهم و ضياع النّفيس الّذي امتلكوا. العزلة و الحذرُ الشديد كان عينَ الحكمة في حال ضعفهم و إرادتهم لحفظ دينهم و عدم التفريط فيه و الرّدّة عليه. هذا التلطّف و الحذر و اعتزال الآخر القويّ المستبّد الظالم لن يكون من الحكمة إذا تساوت موازين القُوى. عندئذٍ سيُصبحُ المنهج "و هو يُحاوره": الحوار سيكون نهج التغيير عند بلوغ التساوي في السُلَط الماديّة و المعنويّة. الحوار سيكون سبيلا للتغيير مع الأصدقاء و الزملاء و الجيران و مكوّنات المجتمع الواحد من مؤسّسات و نقابات و منظّمات... عندئذ التقوقع على الذات و العمل في سريّة لن يكون حلّا جديرا بأن يُغيِّر واقعا و يبني مُجتمعًا مُتماسِكا. هذا المُجتمع لن يُبنى إلّا بالمشاركة و مُحاورة آخر مهما اختلف عنّا؛ ففي السورة يصف الله المؤمن و الكافر بالصاحبين، و اللذين لم يكن أمامهما إلّا طريقُ الحوار. دحر المفاسد و محاولة الحدّ من شرّ الباطل بالمُفاوضة لن تكون الأساليب المناسبة و المُجدية إذا حشد الحقّ قُواه فكانت بيده قوّة العلم و قوّة المادّة و البناء و العمران و التصنيع... عندئذ سيكون لزامًا للحقّ التصدّي لكلّ مظاهر الظّلم و مواجهته. سيكون المنهج عندئذ "فأعينوني بقوّة". إذا تمكّن الحقّ سيكون العمل بيد من حديد واجبا لإقرار العدل و الرقيّ بواقع البلاد و العباد. فالانتصار للحقّ لن يكون بالاستعجال و الاندفاع و الاغترار و الانخراط في أعمال غير مُمنهجة تُقوِّي شوكة الباطل عوض كسرها. التمكين للحقّ يُحقّقُ بعقولٍ تعي موازين القُوى و تفهم دورها حسب الوضعيّة و السياق التّي وجدت فيهما. هذه العقول التي تدرس واقعها بتؤدة و حكمة راميةٍ لا تستعجل قطف الثّمَرِ إنّما تؤمن بعمقٍ أنّ التدرّج سنّة كونيّة.
المنهجيّة الثانية المُستنبطة من السورة هي "منهجيّة بعث الأمل مهما كان الألم" : شيّقة أيضا و تُلقي بظلالها على واقعنا المُعاش.. بعدها تتالى المنهجيات بسلاسة تُقوّم الأفهام و تُضيء نورا في الدروب.. لهذا أدعوكم للإطلاع على هذا الكتاب، كما ستكون لي معه وقفة أخرى علّني أنهل المزيد....



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...