الخميس، 7 مايو 2015

الحلم في زمن الثورة


غزا الأمريكان بغداد و أنا في سنّ الخامسة عشر فعرفت الوجع الحقيقي ساعتها و مازلت أتذكّر طعم الألم المرّ الذي تجرّعته في ذاك اليوم الربيعيّ من الإجازة الدراسية. شاهدت بأمّ عينيّ كيف يُسلبُ الوطن و كيف تُدجّن العقول و كيف يخونك ابن جلدتك و كيف يتبختر فوق جثّتك! لم يشبه ذلك أبدا وقع الهزائم الممتدّة في التاريخ التي تُتلى علينا في البرامج التعليميّة أو في حكايات الموروث التي رضعناها منذ نعومة أظافرنا..
ولدت و قد كان الصهاينة يحتلّون فلسطين و يعيثون فيها ظلما و عُدوانا، حقّا لا أذكر متى دخل وعيي الإيمان بالقضية الفلسطينية!
أتذكّر حرب لبنان و الصهاينة في صائفة الستّ و ألفين، أتذكّر تسمّرنا أمام الشاشة لمتابعة الأخبار منذ الصباح الباكر و زهونا بأغاني المقاومة "حزب الله" الذي كنّا ننظره ساعتها البطل الآتي من أعماق التاريخ ليرجع أمجاد الأمّة الضائعة!!
في حضن هذه الأحداث ترعرع وعيي و نما.. و على وقع مضايقة إدارة المعهد و الجامعة على المرتديات الحجاب كنت أعيش. و صاحبه وقع الخوف من الصدح بمظاهر استبداد الحاكم و فساد نظام الدولة، فلم أكن لأتعرّف عليها حقّ تعرّف إلّا في رحاب الجامعة أين ثلّة شبابية نشيطة تقوا على الوقوف في الساحات و على ارهاب رجال الأمن الذين يُحاوطون الجامعة خوفا من كلماتِ تدوّي بيد أنّها لا تتجاوز الحيطان! ربّما كانت الأحلام يومها قاصرة، نعم هؤلاء شباب مؤمن لا يهاب قول الحقّ و تعرية الطاغية لكنّه يعلم و نعلم أنّ ظلمة السجن سوف تبتلعه اليوم أو غدا، يعلم أنّ دوره هو أن يحرّك ساكنا في وعي الغافلين أو المستهترين بما يقع من فساد داخل الوطن. أمّا بقيّة الشباب، الذين لم تبتلعهم دوّامة الفساد، فكانوا لا يقوَون على حلم غير النجاح في الدراسة و التمكّن من الولوج إلى الوظيفة العموميّة و لو كان ثمن ذلك رشوةً! لأنّ غالبيّة ظنّت أن لا مهرب من أسلوب الحياة الذي فرضته الدولة الفاسدة إلّا بالتماهي معه و مجاراته.
كادت الأحداث التي فجرت الثورة أن تغدو أحداثا طبيعية في بلد اعتادت فيه الدولة قمع مواطنيها و لو بتصفية أولئك الشجعان الذين يجتازون خطّ الخوف إذا بدأت المواجهة بين المتظاهرين و رجال الأمن الذين يعدّون عدّة من يدخل حربا لا من يواجه مواطنين عُزّل. لكن بي إيمان راسخ أنّ الإرادة الإلهيّة لا غير هي التي جعلت هذه الأحداث نوعيّة تصنع نقلة في واقع البلاد بل في واقع المنطقة العربية جمعاء و في النظام العالميّ أيضا.
اندلعت الثورة فانقشع الغمام و أضيئت سماء الأحلام و كبرنا سنين من الحلم و الطموح بحياة يكون فيها العيش كريما آمنا و القول حرّا صادقا.. انفجرت النشاطات المجتمعيّة و المبادرات الشبابيّة فبرزت أنفسٌ مُريدةٌ للعمل و محبّة للتغيير، لكن سقف الإنتظارات كان عاليا و كان الظنّ يحوم حول أنّ اندلاع الثورة هو تحقّقها و أنّ أنفاس الحريّة قادرة على تطهير ما أصاب البلاد من فساد.. كبرت الأحلام في يومنا أدهرا حتّى هرول الإحباط إلى الهمم يُثبّطها، و نفثت شياطين الإعلام سمّها في عقول المنهكين من شظف العيش و المتعجّلين من القوم الذين لا يعرف الصّبر إليهم سبيلا، و تعِب شباب استنزف طاقاته في ثورجيّة علم لاحقا أنّها لا تُسمِن من جوعٍ و لا تُغني..
الحلم لم يكن كلّ الأمر و موسم الحصاد تأخّر، الأرض بورّها الفساد و هي تستحقّ الكثير الكثير من الجهد و المثابرة و المُصابرة حتّى ترجع أرضا تلد ثَمرًا..
الحلم طار بنا عاليا فكان السقوط مُؤلما لأنّ أجنحتنا لا تقوا إلى التوّ على التحليق بعيدا، لم يمض كثيرا أن تعلّمنا فنّ الطيران فكيف نُحلّق بعيدا ؟
الحلم شيء جميل يجعلنا نواصل الحياة، لكن يجب أن ننفتح على جراحاتنا و نتقبّل أنّ واقعا صعبا ما نعيش و أنّ الإصلاح لا يكون مُستعجلا و أنْ لا شيء سيبدو على النحو الذي ننشد بين ليلة و ضحاها.. الحلم الجامح و الرومنسية الزائدة في حبّ الأوطان بالتباهي بمحبّتها لا ينفعان اليوم، بل ما ينفع هو أن نقبل أن نعمل في أحلك الظروف علّ أجيالا قادمة تنعم بما سنرسّخه من مبادئ و قيم ترقى بنا.. صحيح أنّ ما نحمل من موروث يُثقل كاهلنا، لكن أ يدفعنا إلى اليأس و التسليم و التماهي مع حالة الضياع القيميّ و الهوياتيّ و العلميّ و ... صحيح أنّ ما نعيشه من واقع مُفجع و منهك، لكن أ يكون هذا سببا للتباكي و ارتداء ثوب الضحيّة دوما ؟ أم سببا للقيام رغم كلّ شيء!
إنّ جيلا عاش و يعيش كلّ هته الملاحم و كبّرته الثورة أزمانا ليس له إلّا أن يُقاوم و يؤمن أنّ التغيير يُصنع بيده إذا ما ارتقى هو بوعيه و نقّب عن مكامن الإبداع فيه و لم يستسلم..
..
خولة
07-05-2015



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...