الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

غُـرَبــاء ..


قد أيقنت -يا صديق- بعد كل هذا المسير، أن قدر القلوب الشفيفة التي تبحث معنى الحياة، إنّما هو الغربة!
هم غرباء في هذه الأرض لأنّهم يفهمون أنها ليست بوطنهم. هم غرباء لأنّ الشوق و الحنين لا ينفد من قلوبهم، توّاقون هم أبدا. هم غرباء عن عالم محكم بماديّة مقيتة، فأرواحهم جذوة لا تخبو. هم غرباء عن دائرة أفهام ضيقة ترى الأفعال تدور في فلك الانتهازية و الأنانية و الطمع الفاحش و جشع المشاعر، و هم منطقهم صدقٌ يهدرُ في أعماقهم. هم غرباء على قلوب لا تتسع لجواهر النفس المخبوءة بل تغريها المظاهر البراقة حد الخداع و النجاحات الصارخة حدّ الزيف. هم غرباء لأنّهم كالطير يسعون من سماء إلى سماء و يقلّبون وجوههم باستمرار ينقّبون عن المعاني المزروعة في دروب السعي الطويلة المخطرة المنهكة. هم غرباء لأنّهم يضحّون -و هم يسلكون خياراتهم- بكيان أجوف و لو كان قصرا فخما في أعين الآخرين. هم غرباء لأن جلسة في ظلال شجرة وارفة و في حضن سماء مدرارة بالحكايا تشغلهم عن الدنيا و ما فيها من مجالس أنيقة و مطاعم بديعة.
هل عرفت يا صديقي لماذا يقال: "طوبى للغرباء" !
لأنّهم خفيفون كنسمة لطيفة، لا يثقلون على أحد لأنهم يعطون أكثر مما يأخذون، و إن أخذوا فتكفيهم نظرة حانية و ابتسامة صادقة و مشاعر دافئة.
"طوبى لهم" لأنهم يسيرون على نور أرواحهم فإن بهتت عادوا إليها و استصلحوها و زوّدوها، أرواحهم تنبض بالحياة دوما لذلك هم صادقون.
"طوبى لهم" لأنهم لا يتعلّقون بالسفاسف التي تترك الإنسان مدفونا في السفح. بل رؤاهم البعيدة تحلّق بهم نحو القمم، و لو كان التحليق منهكا فالصبر من شيمهم لأنهم يبصرون فجرا ينبلج مع ولادة كل معنى.
"طوبى لهم" لأنّ أفئدتهم كأفئدة الطير، أفئدة تسمع توجّع الأرواح الصامت و تبصر حزن القلوب الدفين.
"طوبى لهم" لأنّ لا شيء يملكهم بل هم أغنياء على قدر عطائهم. هم أحرار بالمحبّة و النظر إلى مساحات الروح الرحبة رغم كل ضيق. هم لا ييأسون لأنهم ينظرون الورد من وراء الأشواك. فتظلّ الدروب ممتدة أمامهم يطوونها لا يطلبون مجدهم بل يصبون لتحقّق الإنسان المغترب في حال الدنيا و المشتاق إلى وطن خالد تسكن فيه كل أوجاع غربته..


هم الغرباء فطوبى لهم ! طوبى لهم يا صديق!
…..
تونس 07-10-2015

س 09.00

هناك 3 تعليقات:

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...