السبت، 16 يوليو 2016

ليلةٌ تُركيّة

ظننت الأمر، بدايةً، مزحة رديئة أو مجرّد افتعال شائعاتٍ مُغرضة. لكنّ تتاليَ الأخبار تترًا لم يترك أمامي إلّا تصديق الحادثة و إدراك جَلَلِها !
أوقاتٌ مليئة بالرهبة ظللتُ فيها مشدودة الأعصاب جرّاء تضارب الأنباء العاجلة التي تظهر على الشاشة في تسارع جنونيّ. فالخبر يأتي  في الأوّل من جهة مجموعة الجيش المُنقلبة يليه مباشرة نفي له من طرف مؤسسة الرئاسة أو الحكومة الشرعيّة التركيّة، و بينهما أضطرب !

كنتُ أطردُ السواد الآتيني من الليلة الليلاء التي عِشتها حين إعتدى العسكر على أوّل حكومة شرعيّة أفرزتها الثورة المصريّة.. أقنِعُ نفسي بأنّ الحكايا لا تتطابق و أنّ لكلّ حكاية تفاصيلُها الخاصّة و لكلّ حكاية ملامحها و إن تشابهت في بعضها. لكنّي لم أفلح في إذابة خاطر ظلّ يجوب في رأسي: ماذا إن سقطت تركيا بيد العسكر ؟ حتّى تحضُرُني إجابة واحدة لا بديل عنها: علينا السلامُ إذن !قُضِيَ الأمر و سنتدحرجُ إلى أدنى سفحٍ بدون أجل يُنبئ عن قيامنا!

الأفكار التي قفزت لعقلي حينئذ كانت أولاها عن أيّ تجارب رائدة سنحدّث الأجيال التي نُربّي ؟  أيّ محيط سينشؤون فيه و كلّ ما حولنا قاتم؟ ثمّ، ماهو موقفنا بعدما يمدّ الإنقلاب المشؤوم أذرُعَهُ ؟ نتباكى أوّلا ثمّ نعتلي المنابر نُحلّل و نناقش و نتبارى في لعب دور "الفِهِّيم" الذي يلعن كلّ من سبقه في الرؤية و الكلام. سوف نتفنّن في تأدية دور الضحيّة..
اشمأززت لما سنكون عليه وقتها و لعنتُ العجز ألف مرّة ! امتلأت حنجرتي بالغصص و لم يتدحرج دمعي كعادته فقد أقنعت نفسي أنّ البُكائيّات ملّتنا و إن لم نملّها نحن فاحترفناها بمناسبة وبغيرها!
 ثمّ ذهب كُلّي للسوريين الذين لفظهم وطنهم فاحتضنتهم تركيا بدفء المحبّة و كرم الضيافة؛ ما هو مصيرهم إذا تغطرسَ العسكر ؟.. و أهل غزّة؛ من يُنير شمعة في دجى حصارهم ؟.. و شباب مصر الفارّ من عسكر غاشم أحرق بلاده و أحلامه؛ ما مصائرهم ؟؟ ماذا عنهم كلّهم و عنّا إذا انطفئت شمعةُ الأمل "تركيا" ؟؟!
كلّ هذي الأفكار تتدافعُ بداخلي فأدفَعُ ألمَها بمتابعة التفاصيل و اقناعي بأنّ الوقت مازال مبكرا لأستسلِمَ لهواجسي الشجيّة، فهاهو الرئيس أردوغان يُطِلّ واثقا مؤمنا بقوّة شعبه. و لا يمرّ من الوقت إلّا اليسير جدّا حتّى يستجيب الشعب و تفيض الشوارع بأحرار يدفعون كابوس "العسكر" بعيدا بعيدا و يرسمون هالةً من نور في ليلة ابتدأت بظُلمةٍ حالكة. و من قبل هؤلاء الأحرار كان خروجٌ جريءٌ، على الشاشات، للنُخبة السياسيّة تُدافع عن الحريّة و الديمقراطيّة كمبادئ راسخة لا تقتلِعُها رياح الإختلافات الفكرية و الأيديولوجيّة. هي نُخبة كانت مثالا لشعبها في أنّ القوّة في الاتّحاد أمام كلّ ما يُهدّد تقدّم الوطن و رقيّه.

تتواصل تداعيات هذا الانقلاب حتّى اللحظة، بيدَ أنّ الأتراك لم يهنأ لهم جفن حتّى أنهوا الليلة بإذلال المنقلبين المُعتدين على حُرمة الوطن. ففد لاح الفجر بتباشير نصر الإرادة الشعبيّة التي اختارت الحريّة مُستقرًّا و وِجهةً. ما فعله الأتراك في هذه الليلة سيُخلّده التاريخ و لن تنساهُ الذاكرة حتما.
 بطولةُ الأتراك شرفٌ وليست مُبرِّرًا أبدا ليلعن بعضنا باقي الشعوب التي استبسل شقٌّ عريضٌ منها لكنّها لم تظفر بالانتصار على الظلمة حتّى الساعة. مثالُ ذلك الشعب المصريّ الذي أظهر إرادة و عزما لم ينثنيا لشهور بل لأعوام و هو يرفض الانقلاب العسكريّ. لكنّ واقِعَ مصر مثخن بالفقر المُدقع و التجهيل و البطالة و البؤس.. فأنّا لمُعطيات مختلفة أن تُؤدّي لذات النتيجة ؟!
و حناجِرٌ حُرّة في بلادٍ كثيرة لم تجفّ و هي تلعنُ الظلم و تنتصِرُ للحقّ، لكنّ طريقها مازال طويلا! فلم الاستهزاء منها و لعنها و النيل من شرفها فقط لأنّها تُحاوِل و لم تُفلِح في تحقيق ما حقّقه الأتراك في ليلة واحدة. و لِنعلم أنّ واقع تركيا اليوم من اقتصاد و تعليم و تنمية مزدهرة جميعها، هو وليد طريق طويل من العمل و التعب.. إذا كان من حقّنا أن نلعن أحدا فهو النُخبة التي استأمنها شعبها على البلاد بتفويضها فظلّت عالقة في أحقادها تارة و في مرض الخيانة تارة أخرى فلم ترفع يدا حتّى اليوم للبناء أو حتّى أبطنت نيّة للإصلاح..
لعنَةُ الله على الكاذبين المُفسدين و سلام على الصادقين المُصلحين !





..
الحامّة
16-07-2016
س 23.00

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...