الأربعاء، 3 أغسطس 2016

عندما تتبدّل أفراحُنا هواجِسًا !

يحدثنا والدي عن احتفالات الزواج في بادية قريتنا الجنوبية (الجنوب التونسي) أيّامَ صِباه. يروي لنا بساطة الاحتفال و مشاركة الجميع فيه بداية بجمع الحطب لطهي وليمة العُرس، وصولا إلى السّهرات التي تؤثّثها ألعاب و نِكات و رقص تنكريّ.. يحكي والدي عن صدق الفرح الذي يولد من رحِم البساطة فأتحسّرعن طعم الفرح يتبخّر سنة تلو الأخرى من أعراس عصرنا.
في مدينتنا الجنوبيّة و في مدن تونسية كثيرة أضحى ما يسمّى ب "الجهاز" واجبا ثقيلا على العروس و أهلها. "الجهاز" هو ما تُجهّز به العروس ييتها الجديد الذي يؤسّسانه هي و رفيق دربها. حديثي هنا ليس عن مستلزمات المنزل التي هي من ضروريات العيش إنّما عن الكماليّات التي يصعب عليّ إحصاؤها فدرايتي بها محدودة: أوانٍ بالإمكان أن تُؤثِّث ثلاث مطابخ أو أربع، مزهريات يمكن أن تزيّن نزلا لا منزلا، أفرشة و أغطية يمكن أن تقي عشرات المحرومين برد الشتاء القارص.. إنّها ثقافة التكديس التي لم نسلم منها مذ تهيّأ لنا أنّ الحضارة تُبنى باستيراد الأشياء. تكديس المواد العصريّة لم يُبطِلُ أبدا تعلّقا أعمًى بالأعراف و اتّباعا بلا تفكير للتقاليد، و منها مراسم الزواج التي يمثّل كلّ مرسم فيها قضية فرعية من قضايا الشرق الأوسط المتكاثرة منذ زمن ادراكي لها. جُلّ هذي المراسم أفرغتها من روحها الإحتفاليّة النزعة التفاخريّة التي تُبضّع المرء و تجعل جماله و قيمته في ما يلبس و يعرض من فاخر ملبس و شهيّ مأكل.
أمّا العلاقة بين العروسين فتُكبّلُها الواجبات التي يفرضُها العُرف أو سُلطةُ المُجتمَعِ. حتّى أنّهما يصلان للحظات الأخيرة من حفل الزفاف منهكَينِ و قد نال منهما التوتّر. على سبيل المِثال، عندنا مهرُ العروس أمر تعجيزيّ لمتوسّطي الدخل حتّى أنّ بعضهم يضطرّ للاقتراض كي يتمكّن من توفير مستلزماته. كما تتبارى العرائس -في مدينتنا- في تحضير أفخر "حنّة للعريس". حيث تُحضّر ما لذّ و غَلى من الحلويّات و مشتقاتها ليأخذها عريسها مُفاخِرًا بها الحاضرين في حفل "حِنّته". في هذا الحفل يتبارى الأصدقاء الشُبّان على تقديم أوفَرِ مبلغٍ للعريس. و هكذا تتالى مراسم الزواج سِلسةً من المُباريات في البهرجة و التظاهر و التفاخر؛ الخاسِرُ الأبرزُ فيها هو الفرح البسيط الصادق النقيّ!
و لا يفُوتُني "الإشادة" بالحفلاتِ الفخمةِ الصاخبة التي تتحوّل ساحة عَرضِ لآخر المُوضات التي لها علاقة بالذوق و التي لا تمتّ له بصلة. أمّا صِلَةُ الرحِمِ فلا تبدُو هذي الحفلات المكانَ و الزمان المُناسبين لتجلّيها، فالغالبيّة -إلّا من رحِمَ الله بالطبعِ- مُنشغِلةٌ بمُراقبة سيرِ قوانين الحفل المظاهريّة الصارمة.
لِمَ نُحوّلُ أفراحنا إلى كومَةٍ من الهواجِسِ فتكون نصّا عنوانه التوتّر و القلق ؟ لِمَ تُصبِحُ أفراحنا مناسبةً للبحث عن إرضاء الآخرين المتكلّمين بإسم المُجتمع و التقاليد و العُرفِ ؟ لمَ ننسى أن نُرمّم داخلنا المهزوزَ من أوجاعِ الدنيا بفرحٍ سنّه الله في آيةٍ من آياته (الزواج) و نتفانى في بناء المظاهر المُبهرجة التي لن تُصبِحَ يومًا عتيّةً ما دامَت تُقهقِر الإنسان إلى العبوديّة (عبوديّة المادّة) و تسرقُ منه الفرَحَ بحُريّتِهِ؟!

أعتقِدُ أنّنا بحاجة لمراجعة حساباتٍ كثيرَة حتّى لا ننسى في خضمّ هذا الإجتياح الماديّ للعُرسِ أن نفرَح و نتذكّر مَرامِي هذه المناسبة. في نظري أنّ تبديل الحالِ يحتاجُ إلى شجاعةٍ، و هنا محتاجونَ لعريس و عروسٍ جَسُورَين يصنعان فرحهما الصادق لا يخشيان لومة لائم بل يخشيان الله في ما أؤتمِنا عليه من رسالةٍ في أصغر الخطوات التي يخطوانها بإتّجاه حياتهما الجديدة.
..
الحامة
03-08-2016
الساعة 16:00 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...