الجمعة، 29 ديسمبر 2017

الأشياء ومعانيها


عندما انتبهتُ أنّه يُحبِّرُ آخر أوراقه عازما سفرا ليس له عودٌ في هذه الدنيا، انتابني الحنين !
تمنّيت لو أجمع أشيائي المبعثرة في أفيائه ثمّ أحضنها بإمتنان.
وأخبره:
"ممتنّة لكلّ لحظة فيك إزدتت فيها اتّساعا. ممتنّة لكلّ مكان كنت أنت إناءه لكنّك لم تحتكره، بل عشت فيه أزمانا قديمة وقادمة. ممتنّة لك أيّها العام الذي يُهاجر نحو زمن الخلود. كم أرجو أن ألقى أشيائي فيك يومَها وهي تتلألأ حُسنًا.. "

يحدّثني خالي عن زمن ولّى كانت فيه العلاقة بالأشياء قويّة. قال لي بأنّ العلاقة المباشرة بالأشياء جعلت فهمهم لعملهم أعمق، جعلتهم يغوصون في التفاصيل وينقّبون في العلاقات بينها فيدركون الغاية والمُراد من الأشياء. يفهمون أنّها ليست إلّا وسائل وأسبابا لمهمّات كبيرة. الأشياء ليست غايات في حدّ ذاتها، الغايات أعمق. الغايات تطلب الكدّ والبحث والفهم. يقول لي الفرق بين ذاك الزّمن واليوم هذا التحكّم في الأشياء الذي أتقنه العِلم. صيّر العلاقة بالأشياء ظرفيّة سحطيّة ذات بعد واحد. هذا التسهيل كان المُنتظر منه أن يجعل الإنتباه للهدف أكبر، لكنّه قطع طريق الوصول إليه. منطق التحكّم المُفرط بالأشياء قصّر وقت الغوص نحو المعنى الدّفين، جعل الإنسان يشتاق إلى الرفاهيّة قبل أن يتعلّم العيش. أحاوِلُ أن أستوعِبَ قوله وأنا أتابِعُ التكنولوجيا تسهّل كلّ شيء حولنا، إلّا علاقاتنا بأبنائنا، بأصدقائنا، بزملائنا، بكلّ من حولنا.. تزداد تعقيدا. أحاول أن أفهمه وأنا أشاهد كدّنا وإجتهادنا ليس له مَطمَحٌ إلّا نجاح مُبهرج مضبوط المعايير..

أشاهد تقريرا إخباريّا عن تقدّم حديث في صناعة الرجل الآليّ، يتساءل قارئ التقرير: "هل سيجعلنا هذا الرجل الآليّ أكثر سعادة بما يوفّره لنا من سهولة في العيش؟" أجيبُه أنّي لا أطيق رؤيته حتّى! فكيف لي أن أقبل أن تشاركني لحظات الحياة الفريدة آلة  لا تفهم مزاجي أو دهشتي أو محبّتي فهي تُساوي بين حالاتي وتمنحني إجابة جازمة بلا إحتمالات، بلا أمل .. بلا روح.
أقول لأمّي أنّ هذه الرفاهيّة التي صنعها الإنسان لم تزده إلّا تعبا وانشغالا عن عمره الذي يتسرّبُ منه كما يتسرّب الماء بين يدي ظمآن.   تكديس الأشياء يشغلنا بتنظيمها وترتيبها وصيانتها فيضيع الوقت دون استمتاعنا بها. هذه الكثرة في الأشياء تشتّت تركيزنا وتستنزف قُوانَا. تحضرني دراسة تربويّة حديثة طالعتها، توصّلت الدراسة إلى أنّ عدد الألعاب القليل يساعد الطفل على الإبداع أكثر بتخيّل طرائق عدّة للتعامل مع ألعابه وبناء علاقة وطيدة بها تجعلُه يدرك مساحات إستمتاع أوسع.

عندما سافرت للمرّة الأولى إلى ذاك المكان الغريب عنّي كانت تُخالجني رهبة من شعور"الغربة" الذي سال مداد الكثيرين عنه شعرا ونثرا. كنت مشتاقة للتعرّف عليه شعورا جديدا يوسّع فهمي لهذه النّفس الغامضة المنطوية على زاخر الأسرار. فلمّا أدركت ذاك المكان الذي لقّبته بالغريب من قبل، وجدتني أنسج فيه علاقة بالأشياء. في تلك الأرض عرفت معنى الأنس وربّما صادفني الشعور بالغربة ضيفا عرضيّا في دروب الروح المسافرة دوما في بحر الحياة. في تلك الأرض صادقت النّهر فوجدتني أركض إليه كلّما امتلأ صدري بالكلام وفاض ماءُ عيني. في تلك الأرض احتميت بالأشجار التي إحتضنني ظلّهاعندما أحرقتني حرارة الحروف وهي تولد على الورقة. في تلك الأرض أهديت غرفتي باقة قرنفل لتزدان. في تلك الأرض أصغيت لثرثرة الأبنية، استنشقت رائحة الأمكنة. أخبرتني تلك الأرض أنّ طيني ربّما احتوى على ذرّة من ترابها.. هناك علمت أنّ علاقة المرء بالأشياء من تصنع شعوره،  تصوغ فكره، تكوّن نظرته، تمدّ آفاقه، تغزل معانيه..




كلّما حلّت مناسبة لترتيب أشيائي القديمة، كان موعد طويل للجلوس معها ينتظرني. أجلس في حضرتها أمسح عنها الغبار وتمسح عنّي تعب الطريق. أستذكر دوائر الأمكنة والأحداث والأزمنة التي جمعتني بها. أشعر بالإمتنان لأشياء كانت في طريقي تحتويني وتحتملني وتسدي إليّ جميلا. أشعر بالمحبّة لأشياء سلكت الطريق إليّ من قلوب أخرى عربون وُدٍّ وصفاء. الأشياء رسولُ رسالته لا يقطع ذكرها. تبلى الأشياء وتبقى الرسائل راسخة في الروح.. 

يسبح الإنسان في عالم الأشياء فيلامس بالفهم إحسانها كوسيلة ورفيق نحو الهدف، ويتّقي بالوعي بوظائفها شرّ الغرق في ماديّتها.

....
29-12-2017



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...