الاثنين، 11 يونيو 2018

خواطر عن معنى "العفو"




ينتظر المسلمون في العشر الأواخر من رمضان  "ليلة القدر"، الليلة التي عرّفها الله في القرآن بأنّها " خير من ألف شهر" فهي التي نزل فيها القرآن بقوله تعالى "إنّا أنزلناه في ليلة القدر". في هذه الليلة المباركة،  يستحبّ ترديد دعاء مأثور للرسول محمّد صلى الله عليه وسلم:  "اللّهم إنّك عفو تحب العفو فاعف عنّا". مركزية "العفو"  في دعاء يخصّ هذي الأيام  المركزية بالنسبة للمسلمين تدعو للتفكّر، فأيّ معانٍ يحملها مفهوم "العفو" حتّى يكون حاضرا بارزا في زمان أخير؟

لنا أن نتذكر بداية  أنّ من أسماء الله "العَفُوّ" -وهو إسم فاعل مبني على المبالغة، ومعنى العفو فيه أساسا هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه. يأتي هذا الإسم ليؤكد مع آيات عديدة من القرآن أن العفو وعد الله لعباده الذين يرجعون عن الخطأ. وأنه ككل إسم من أسماء الخالق تشتق منه القيم الإنسانية التي تنظم العلاقات بين البشر وتقومها. 
فعندما كتب الله على نفسه العفو،  فإنه دل العباد عليه ليكون قيمة تحكم علاقتهم ببعضهم.

أمّا لغة؛ فإنّ من معاني العفو في لسان العرب أنّه محو الآثار، وهو الفضل الذي يجيء بغير كلفة ووفرة العطاء وأجوده وهو السهولة دون المشقّة... من هذه المعاني يمكن البدء في تلمّس الطريق لأهميّة هذه القيمة المركز: "العفو".

فإن كان العفو  طمسا لآثار سيء الأعمال فهو يهدف لبناء مجتمع تتقلّص فيه الطاقة السلبيّة الموجّهة نحو التباغض، لتتكاتف الجهود في البحث عن سبل العيش المشترك في إحترام وكرامة وحقّ. والعفو هو القيمة المُقسطة لإنسانيّة الإنسان وهو يخوض معاركه الحياتيّة فــ “الانخراط في نضالات مشروعة من أجل الحق والعدل يجب ألا ينسينا قيم العفو والفضل" على قول الدكتورة هبة رءوف عزت (في كتابها: في ظلال رمضان").

والعفو ليس ما يجُرّ إلى السكوت عن الظلم والتسامح مع الفساد، إنّما هو قيمة نبيلة يقدم عليها كرماء الأنفس بعد إقرار الحقوق وتحمّل كلّ فرد مسؤوليته في الفعل. فالعفو يكون على المقرين بأخطائهم والمقدمين الوعد بعدم الرجوع إليها. العفو نور يشير إلى سواء الطريق إذا حَلُك دجى التطاحن واشتدّ وطء الإنتقام. العفو هو العقل الذي يقود السفينة بحكمة إذا هاجت عاصفة صراعات مجتمعيّة أسعرتها الأنانيّة والكراهيّة.

وإذا ما دققنا النظر في معاني العفو من سهولة وفضل لوجدنا أن توازن الفرد والمجتمع يقتضيها؛ فبالعفو تتخفف الأرواح ويسهل سيرها دون أوزار تثبطها عن تصريف مجهوداتها في الدروب البناءة. وبالعفو تتسع الأنفس وترتقي عن مطالبها الصغيرة نحو الغايات الكبيرة فينطفئ غضبها لنفسها، لكن لا يخبو غضبها من أجل فكرة تصدح بالحق. وبالعفو يصبح المرء أقوى فهو الذي تمكن من فتح أبواب روحه على مصرعيها فإذا بنسائم إنسانيته العابقة تفوح. فليس مرمى المرء خطايا غيره، بل هدفه محو الخطيئة وتطهير آثارها فهي كالجرح إن لم يطهر -رغم الألم-  فإن نزفه لن يتوقف وإن توارت عن العيون الدماء.

العفو الذي هو نبت راسخ في ليلة مُخيّرة عن ألف ليلة  يُحدّثنا أن ما يُدرَكُ بالعفو يُغني عن سير ثقيل في دروب مضنية نائية. هذا الإختصار الزمانيّ يخبرنا أنّه بتذوّق المعنى يتّسع الزّمان وتُختزل طرقات الأوجاع الطويلة.  إنّ العفو يتحقّق بمغالبة النّفس حين تُنكر ذاتها التي تتضخّم فتحجب عنها النّور، وإنكار الذّات هذا يُعلّم المرء كيف ينجو من حبّ نفسه الذي يُفسدها وليس ذاك الحبّ الذي يُهذّبها ويُحسّنها.

هذي المعاني التي تُجمع على أنّ العفو دواء لما يوفّره من مناخ مجتمعيّ سليم وما يتجلّى معه من سعة في نفس المرء ،تتّفق جدّا مع ما توصّلت إليه الدراسات العلميّة النفسيّة التي تحلل العلاقة بين العفو والصحة النفسية والبدنية للإنسان. وصفت أحد الدراسات العفو أنّه "إستراتيجيّة مركّزة على المشاعر" واتفقت مع دراسات أخرى أنّ العفو يقلّل مشاعر العداء ويحدّ من الغضب وبذلك فهو يحمي من المشاعر السلبيّة المتسبّبة أساسا في أمراض القلب والأوعية الدموية. كما أنّه يعفي لإنسان من من خلل في جهاز المناعة تسبّبه التوتّرات والضغوطات الناتجة عن عدم التسامح.

من معاني العفو البارزة الفضل وهو يقدّم فضلا واسعا من نواح مختلفة: نفسية، مجتمعيّة، بدنيّة، روحية... هذه النواحي تتكامل حتّى تُنتج حياة أسمى وأرقى تتجلّى فيها الإنسانيّة عندما تتعافى البشريّة من أمراض تسبّبها حروب زاغت عن بوصلة الحقّ.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...