قد يُميت التكرار أعمالنا و تغتال الرتابة نظرتنا بشغفٍ للأشياء ، لكنّنا كلّما جدّدنا و استحضرنا النيّة التّي بها نبغي العمل و كلّما نبشنا عن معنًا جديد لم نكتشفه بعد، عن غاية أنبل لأعمالنا أحييناها و استمتعنا بكلّ تفاصيلها استمتاعًا مأتاه الفهم و الإدراك و الوعي و السّعي نحو الفضائل..
ها هو "ذو الحجّة" يطلّ علينا -ككلّ عام- و يأتي معه بالخيرِ الوفير فهل سنكون من الغانمين ؟ هل سنكون ممّن يُباركون أعمالهم بنور الإخلاص ؟ هل سنكون ممّن ينفضون غبار الخمول عن أرواحهم و يفرّون إلى ربّهم يستبقون الخيرات ؟
في هذا الشهر الفضيل أيّام و ليال مباركات أقسم بهم المولى عزّ و جلّ في كتابه "و ليالٍ عشر" (سورة الفجر). في هذا الشهر يؤدّي مسلمُو العالم أجمع الفريضة الخامسة "الحجّ". يأتون من كلّ صوبٍ و حدب مُلبّين النّداء "لبّيك اللهم لبّيك" يسألون ربّهم في بيته الحرام الذي عظّمه أيّما تعظيم.
حريّ بنا-كمسلمين- أن ندخل هذه المدرسة "الحجّ" و نرتوي من مقاصدها الرّامية و نتظلّل في أفيائها الروحيّة الممتدّة.
يبدأ الحجّ بالإحرام في قطعة قماش أبيض ليس به مخيط، يلفّ الحاجّ جسمه بتلك "الخرقة" قاصدا ربّه متأدّبا سمّاعًا لندائه. يترك الأهل و الصّحب و متاع الدّنيا وراءه و يسافر إلى البيت الحرام، البيت الذي يحكي قصّة إبراهيم الخليل و وولده إسماعيل و هم في أرض جرداء لبّوا نداء ربّهم و أذّنوا في النّاس يدعونهم للتوحيد (إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، و العبرة هنا؛ أذّن و لو كنت وحدك، اصدح بالحقّ و اثبت و جاهد و انشر دعوتك التي بها آمنت، لا تلتفت و لا تتخلّى!
البيت أين وُلد و ترعرع سيّدنا الحبيب المصطفى صلوات ربّي عليه، البيت الّذي ذكره الله في كتابه مِرارا ليُحدّثنا عن قدسيّة ذلك المكان..
في الحجّ لا فرق بين أعجميّ و عربيّ؛ الكلّ يلهج بلغة الذّكر، هنا تتّحد الأمّة بتنوّعها: هو درسُ الوحدة و رصّ الصفّ فـ افقه ! هنا زمانُ ليس كالأزمنة: زمن التوحيد و التجرّد لله وحده، زمن يتناسق مع المكان ليكوّنا عالما وجدانيّا تسمو فيه الرّوح و تُنقّى فيه نقاء ثياب الإحرام. الحجّ رحلة الزمان و المكان، رحلة بالنّفس لأزمنة مضت، أزمنة انطوت على تقصير و سهو و لهو، رحلة ترمي للمحاسبة و المراجعة و التّنقية و نفض كلّ غبش.
بين صفا و مروة يسعون سعي الأمّ هاجر، مُستذكرين صبرها و ثباتها و يقينها بالله، يقينٌ فجّر زمزم تحت رجليها، فأنّا لنا بيقين يُفجّر طُهرًا في أرواحنا ؟ أنّا لنا بيقين يُذيقنا عذوبة الوصل ؟ هو السّعي بإخلاص و رجاء و كفى ! هو الله كافينا إذا ما أخلصنا سعينا، سعينا في كلّ أمرنا !
طوّافون هم بكعبة كملائكة يحفّون عرش ربّهم، مُحتشدون بـ عرفة تتعالى أصواتهم ويكأنّه مشهد من مشاهد يوم الحشر؛ إزدحام الخلق أجمعون ! و رمي جمراتٍ يحكي عبوديّة و خضوعًا للواحد القهّار.
و ينتهي موسم الحجّ بذكرى الفداء "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ": درس الإبتلاء و الإمتثال و الخضوع لله و لأمره. درس يحكي كمال التسليم و الطّاعة التي تحلّى بها إبراهيم عليه السّلام، الّذي صدّق الرؤيا و همّ بإيتاء أمر ربّه رغم حبّه الشديد لوحيده "اسماعيل" عليه السلام. الله ما أراد أبدا -حاشاه- أن يُعذّب عباده بالإبتلاء بل كان ليمتحن صبرهم و إيمانهم حتّى إذا عرف إخلاصهم وقاهم الآلام و كرّمهم.
“لا تحسب أن الكعبة بناء فارغ.. إنها هنا لها وظيفة العلامة و الدليل و المرشد, فهي ليست نقطة النهاية, و إنما هي هنا تدلك على الإتجاه. إنها الزاوية التي إليها تركن, و المعلم الذي يدلك على الطريق. إنك تبدأ الحج حينما تقرر أن تتجه تجاه الأبدية. إنها حركه أبدية نحو الله, لا نحو الكعبة. فالكعبة ما هي إلا بداية!” الدكتور علي شريعتي -الحج: الفريضة الخامسة
ها هو "ذو الحجّة" يطلّ علينا -ككلّ عام- و يأتي معه بالخيرِ الوفير فهل سنكون من الغانمين ؟ هل سنكون ممّن يُباركون أعمالهم بنور الإخلاص ؟ هل سنكون ممّن ينفضون غبار الخمول عن أرواحهم و يفرّون إلى ربّهم يستبقون الخيرات ؟
في هذا الشهر الفضيل أيّام و ليال مباركات أقسم بهم المولى عزّ و جلّ في كتابه "و ليالٍ عشر" (سورة الفجر). في هذا الشهر يؤدّي مسلمُو العالم أجمع الفريضة الخامسة "الحجّ". يأتون من كلّ صوبٍ و حدب مُلبّين النّداء "لبّيك اللهم لبّيك" يسألون ربّهم في بيته الحرام الذي عظّمه أيّما تعظيم.
حريّ بنا-كمسلمين- أن ندخل هذه المدرسة "الحجّ" و نرتوي من مقاصدها الرّامية و نتظلّل في أفيائها الروحيّة الممتدّة.
يبدأ الحجّ بالإحرام في قطعة قماش أبيض ليس به مخيط، يلفّ الحاجّ جسمه بتلك "الخرقة" قاصدا ربّه متأدّبا سمّاعًا لندائه. يترك الأهل و الصّحب و متاع الدّنيا وراءه و يسافر إلى البيت الحرام، البيت الذي يحكي قصّة إبراهيم الخليل و وولده إسماعيل و هم في أرض جرداء لبّوا نداء ربّهم و أذّنوا في النّاس يدعونهم للتوحيد (إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، و العبرة هنا؛ أذّن و لو كنت وحدك، اصدح بالحقّ و اثبت و جاهد و انشر دعوتك التي بها آمنت، لا تلتفت و لا تتخلّى!
البيت أين وُلد و ترعرع سيّدنا الحبيب المصطفى صلوات ربّي عليه، البيت الّذي ذكره الله في كتابه مِرارا ليُحدّثنا عن قدسيّة ذلك المكان..
في الحجّ لا فرق بين أعجميّ و عربيّ؛ الكلّ يلهج بلغة الذّكر، هنا تتّحد الأمّة بتنوّعها: هو درسُ الوحدة و رصّ الصفّ فـ افقه ! هنا زمانُ ليس كالأزمنة: زمن التوحيد و التجرّد لله وحده، زمن يتناسق مع المكان ليكوّنا عالما وجدانيّا تسمو فيه الرّوح و تُنقّى فيه نقاء ثياب الإحرام. الحجّ رحلة الزمان و المكان، رحلة بالنّفس لأزمنة مضت، أزمنة انطوت على تقصير و سهو و لهو، رحلة ترمي للمحاسبة و المراجعة و التّنقية و نفض كلّ غبش.
بين صفا و مروة يسعون سعي الأمّ هاجر، مُستذكرين صبرها و ثباتها و يقينها بالله، يقينٌ فجّر زمزم تحت رجليها، فأنّا لنا بيقين يُفجّر طُهرًا في أرواحنا ؟ أنّا لنا بيقين يُذيقنا عذوبة الوصل ؟ هو السّعي بإخلاص و رجاء و كفى ! هو الله كافينا إذا ما أخلصنا سعينا، سعينا في كلّ أمرنا !
طوّافون هم بكعبة كملائكة يحفّون عرش ربّهم، مُحتشدون بـ عرفة تتعالى أصواتهم ويكأنّه مشهد من مشاهد يوم الحشر؛ إزدحام الخلق أجمعون ! و رمي جمراتٍ يحكي عبوديّة و خضوعًا للواحد القهّار.
و ينتهي موسم الحجّ بذكرى الفداء "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ": درس الإبتلاء و الإمتثال و الخضوع لله و لأمره. درس يحكي كمال التسليم و الطّاعة التي تحلّى بها إبراهيم عليه السّلام، الّذي صدّق الرؤيا و همّ بإيتاء أمر ربّه رغم حبّه الشديد لوحيده "اسماعيل" عليه السلام. الله ما أراد أبدا -حاشاه- أن يُعذّب عباده بالإبتلاء بل كان ليمتحن صبرهم و إيمانهم حتّى إذا عرف إخلاصهم وقاهم الآلام و كرّمهم.
“لا تحسب أن الكعبة بناء فارغ.. إنها هنا لها وظيفة العلامة و الدليل و المرشد, فهي ليست نقطة النهاية, و إنما هي هنا تدلك على الإتجاه. إنها الزاوية التي إليها تركن, و المعلم الذي يدلك على الطريق. إنك تبدأ الحج حينما تقرر أن تتجه تجاه الأبدية. إنها حركه أبدية نحو الله, لا نحو الكعبة. فالكعبة ما هي إلا بداية!” الدكتور علي شريعتي -الحج: الفريضة الخامسة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مُروركم يُسعدني.. :)