السبت، 30 نوفمبر 2013

* الحجّ: رحلة في الزمان و المكان، رحلة المعاني ! *

قد يُميت التكرار أعمالنا و تغتال الرتابة نظرتنا بشغفٍ للأشياء ، لكنّنا كلّما جدّدنا و استحضرنا النيّة التّي بها نبغي العمل و كلّما نبشنا عن معنًا جديد لم نكتشفه بعد، عن غاية أنبل لأعمالنا أحييناها و استمتعنا بكلّ تفاصيلها استمتاعًا مأتاه الفهم و الإدراك و الوعي و السّعي نحو الفضائل..

ها هو "ذو الحجّة" يطلّ علينا -ككلّ عام- و يأتي معه بالخيرِ الوفير فهل سنكون من الغانمين ؟ هل سنكون ممّن يُباركون أعمالهم بنور الإخلاص ؟ هل سنكون ممّن ينفضون غبار الخمول عن أرواحهم و يفرّون إلى ربّهم يستبقون الخيرات ؟

في هذا الشهر الفضيل أيّام و ليال مباركات أقسم بهم المولى عزّ و جلّ في كتابه "و ليالٍ عشر" (سورة الفجر). في هذا الشهر يؤدّي مسلمُو العالم أجمع الفريضة الخامسة "الحجّ". يأتون من كلّ صوبٍ و حدب مُلبّين النّداء "لبّيك اللهم لبّيك" يسألون ربّهم في بيته الحرام الذي عظّمه أيّما تعظيم.
حريّ بنا-كمسلمين- أن ندخل هذه المدرسة "الحجّ" و نرتوي من مقاصدها الرّامية و نتظلّل في أفيائها الروحيّة الممتدّة.
يبدأ الحجّ بالإحرام في قطعة قماش أبيض ليس به مخيط، يلفّ الحاجّ جسمه بتلك "الخرقة" قاصدا ربّه متأدّبا سمّاعًا لندائه. يترك الأهل و الصّحب و متاع الدّنيا وراءه و يسافر إلى البيت الحرام، البيت الذي يحكي قصّة إبراهيم الخليل و وولده إسماعيل و هم في أرض جرداء لبّوا نداء ربّهم و أذّنوا في النّاس يدعونهم للتوحيد (إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، و العبرة هنا؛ أذّن و لو كنت وحدك، اصدح بالحقّ و اثبت و جاهد و انشر دعوتك التي بها آمنت، لا تلتفت و لا تتخلّى!
البيت أين وُلد و ترعرع سيّدنا الحبيب المصطفى صلوات ربّي عليه، البيت الّذي ذكره الله في كتابه مِرارا ليُحدّثنا عن قدسيّة ذلك المكان..
في الحجّ لا فرق بين أعجميّ و عربيّ؛ الكلّ يلهج بلغة الذّكر، هنا تتّحد الأمّة بتنوّعها: هو درسُ الوحدة و رصّ الصفّ فـ افقه ! هنا زمانُ ليس كالأزمنة: زمن التوحيد و التجرّد لله وحده، زمن يتناسق مع المكان ليكوّنا عالما وجدانيّا تسمو فيه الرّوح و تُنقّى فيه نقاء ثياب الإحرام. الحجّ رحلة الزمان و المكان، رحلة بالنّفس لأزمنة مضت، أزمنة انطوت على تقصير و سهو و لهو، رحلة ترمي للمحاسبة و المراجعة و التّنقية و نفض كلّ غبش.
بين صفا و مروة يسعون سعي الأمّ هاجر، مُستذكرين صبرها و ثباتها و يقينها بالله، يقينٌ فجّر زمزم تحت رجليها، فأنّا لنا بيقين يُفجّر طُهرًا في أرواحنا ؟ أنّا لنا بيقين يُذيقنا عذوبة الوصل ؟ هو السّعي بإخلاص و رجاء و كفى ! هو الله كافينا إذا ما أخلصنا سعينا، سعينا في كلّ أمرنا !
طوّافون هم بكعبة كملائكة يحفّون عرش ربّهم، مُحتشدون بـ عرفة تتعالى أصواتهم ويكأنّه مشهد من مشاهد يوم الحشر؛ إزدحام الخلق أجمعون ! و رمي جمراتٍ يحكي عبوديّة و خضوعًا للواحد القهّار.
و ينتهي موسم الحجّ بذكرى الفداء "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ": درس الإبتلاء و الإمتثال و الخضوع لله و لأمره. درس يحكي كمال التسليم و الطّاعة التي تحلّى بها إبراهيم عليه السّلام، الّذي صدّق الرؤيا و همّ بإيتاء أمر ربّه رغم حبّه الشديد لوحيده "اسماعيل" عليه السلام. الله ما أراد أبدا -حاشاه- أن يُعذّب عباده بالإبتلاء بل كان ليمتحن صبرهم و إيمانهم حتّى إذا عرف إخلاصهم وقاهم الآلام و كرّمهم.

“لا تحسب أن الكعبة بناء فارغ.. إنها هنا لها وظيفة العلامة و الدليل و المرشد, فهي ليست نقطة النهاية, و إنما هي هنا تدلك على الإتجاه. إنها الزاوية التي إليها تركن, و المعلم الذي يدلك على الطريق. إنك تبدأ الحج حينما تقرر أن تتجه تجاه الأبدية. إنها حركه أبدية نحو الله, لا نحو الكعبة. فالكعبة ما هي إلا بداية!” الدكتور علي شريعتي -الحج: الفريضة الخامسة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُروركم يُسعدني.. :)

دليلُ محبّتكم الفعّالة لطفلكم في عامه الأوّل

لأنّكم رفاق العُمر قبل بدايته، لأنّكم الأرض الأولى التي يزرع فيها الطفل خطواته، لأنّكم من ترمون حجر الأساس في بناءِ الرحلةِ الذي ترجون ك...